فصل: باب فَضْلِ سُورَةِ الْفَتْحِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآن

باب كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْىُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ الْمُهَيْمِنُ الأمِينُ، الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَة، وَابْنُ عَبَّاس، لَبِثَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا‏.‏

- وَقَالَ أَبُو عُثْمَان‏:‏ أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ سَلَمَةَ‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذَا‏)‏‏؟‏ أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَتْ‏:‏ هَذَا دِحْيَةُ، فَلَمَّا قَامَ، قَالَتْ‏:‏ وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلا إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ، أَوْ كَمَا قَالَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ نَبِىٌّ إِلا أُعْطِىَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا، أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْىُ، ثُمَّ تُوُفِّىَ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ‏.‏

- وفيه‏:‏ جُنْدَب، اشْتَكَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلا قَدْ تَرَكَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 2‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معنى هذا الباب إثبات نزول الوحي على النبي عليه السلام وأن جبريل عليه السلام نزل عليه به، ومصداق هذه الأحاديث في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192- 194‏]‏‏.‏

وقال أهل التفسير‏:‏ الروح الأمين جبريل‏.‏

وذكر أبو عبيد عن يزيد بن هارون، عن داود بن أبى هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا فى ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك فى عشرين سنة، وقرأ‏:‏ ‏(‏وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ وحدثنا ابن أبى عدى، عن داود بن أبى هند قال‏:‏ قلت للشعبى‏:‏ ‏(‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِىَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، أما نزل عليه القرآن فى سائر السنة إلا فى شهر رمضان‏؟‏ قال‏:‏ بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمدًا بما نزل عليه فى سائر السنة فى شهر رمضان‏.‏

وذكر أبو عبيد بإسناده عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ أول شىء نزل من القرآن‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ هى أول شىء نزل على محمد‏.‏

وهو قول مجاهد وزاد‏:‏ ‏(‏ن وَالْقَلَمِ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وأما آخر القرآن نزولاً، فقال عثمان بن عفان‏:‏ كانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وقال البراء‏:‏ آخر آية نزلت‏:‏ ‏(‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلاَلَةِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ وآخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا‏.‏

وقال عطاء وابن شهاب آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا وآية الدين‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 281‏]‏‏.‏

واختلف فى مدة بقاء النبى بمكة، فروى أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة فى هذا الباب‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشر سنين‏.‏

وذكر البخارى فى كتاب مبعث النبى صلى الله عليه وسلم فى باب الهجرة، من رواية عكرمة، وعمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه‏.‏

ولم يختلف فى مدة بقائه صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنه كان عشرًا، وسيأتى فى كتاب الاعتصام الكلام فى حديث أبى هريرة إن شاء الله‏.‏

باب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏، ‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 195‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ‏:‏ فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنْ يَنْسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ لَهُمْ‏:‏ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا‏.‏

- وفيه‏:‏ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، كَانَ يَقُولُ‏:‏ لَيْتَنِى أَرَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْىُ، فَلَمَّا كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ عَلَيْهِ، ثَوْبٌ قَدْ أَظَلَّ عَلَيْهِ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِى رَجُلٍ أَحْرَمَ فِى جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ‏؟‏ فَنَظَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى، أَنْ تَعَالَ، فَجَاءَ يَعْلَى، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّىَ عَنْهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ الَّذِى يَسْأَلُنِى عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا‏)‏‏؟‏ فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ، فَجِىءَ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّا الطِّيبُ الَّذِى بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِى عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِى حَجِّكَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث أنس عن عثمان بن عفان معنى الترجمة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فما وجه حديث يعلى بن أمية فى هذا الباب‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ معناه أن الوحى كله من قرآن وسنة نزل بلسان العرب قريش وغيرهم من طوائف العرب كلها، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يخاطب من الوحى كله إلا بلسان العرب، وبه تكلم النبى للسائل له عن الطيب للمحرم، وبين هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

فهذا حتم من الله تعالى لكل أمة بعث إليها رسولاً ليبين لهم ما أنزل إليهم من ربهم، فإن عزب معناه على بعض من سمعه؛ بينه الرسول له بما يفهمه المبين له، ودل قول عثمان‏:‏ إذا اختلفتم في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم على تشريف قريش على سائر الناس وتخصيصهم بالفضيلة الباقية إلى الأبد حين اختار الله إثبات وحيه الذى هدى به من الضلالة بلغتهم تعبيره بلسانهم وحسبك بهذا من شرف باق‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ ومعنى قول عثمان‏:‏ فإنه نزل بلسان قريش، يريد معظمه وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أن القرآن بأسره منزل بلغة قريش فقط، وأنه لا شىء فيه من لغة غيرهم؛ فإنه قد ثبت أن فى القرآن همزًا كثيرًا وثبت أن قريشًا لا تهمز وثبت فيه كلمات وحروف هى خلاف لغة قريش، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏، ولم يقل قرشيًا، وهذا يدل أنه منزل بجميع لسان العرب؛ وليس لأحد أن يقول أراد قريشًا من العرب دون غيرها، كما أنه ليس له أن يقول أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر؛ لأن اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولاً واحدًا‏.‏

ولو ساغ لمدع أن يدعى أنه أراد قبيلة من قبائل العرب لساغ لآخر أن يقول‏:‏ إن قوله أنه منزل بلسان قريش أنه أريد به قبيلة من قريش دون غيرها، ومن قال هذا فقد ظهر تخليطه‏.‏

وقد قال سعيد بن المسيب‏:‏ نزل القرآن بلغة هذا الحى من لدن هوازن وثقيف إلى ضربه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ نزل القرآن بلغة قريش ولسان خزاعة، وذلك أن الدار كانت واحدة، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا أفصحكم لأنى من قريش، ونشأت فى بنى سعد بن بكر‏)‏‏.‏

فلا يجب لذلك أن يكون القرآن منزلاً بلغة بنى سعد بن بكر؛ بل لا يمتنع أن ينزل بلغة أفصح العرب وبلغة من هو دونهم فى الفصاحة؛ إذا كانت فصاحتهم غير متفاوتة‏.‏

وقد جاءت الروايات بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بلغة قريش وغير لغتها‏.‏

فروى ابن أبى شيبة عن الفضل بن أبى خلدة قال‏:‏ سمعت أبا العالية يقول‏:‏ قرئ القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم من خمسة رجال فاختلفوا فى اللغة فرضى قراءتهم كلها‏.‏

وكانت بنو تميم أعرب القوم، فهذا يدل أنه كان يقرأ بلغة تميم وخزاعة وأهل لغات مختلفة، قد أقر جميعها ورضيها‏.‏

باب جَمْعِ الْقُرْآن

- فيه‏:‏ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ‏:‏ كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قَالَ عُمَرُ‏:‏ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِى حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ‏:‏ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِى نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ‏:‏ كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قَالَ‏:‏ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِى خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس أنّ حُذَيْفَة قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِى أَهْلَ الشَّأْمِ فِى فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ فِى الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِى الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِى إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِى الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِى الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ‏:‏ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِى شَىْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِى الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِى كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ‏.‏

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ فَأَخْبَرَنِى خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أنَّهُ سَمِعَ أباه زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ‏:‏ فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ، قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأنْصَارِىِّ‏:‏ ‏(‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏، فَأَلْحَقْنَاهَا فِى سُورَتِهَا فِى الْمُصْحَفِ‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ ما وجه نفور أبى بكر وزيد بن ثابت مع فضلهما عن جمع القرآن‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنهما لم يجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ فى جمعه إلى هذا الحد من الاحتياط من تجليده، وجمعه بين لوحين، فكرها أن يجمعاه جزعًا من أن يحلا أنفسهما محل من يجاوز احتياطه للدين احتياط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أنبههما عمر، وقال‏:‏ هو والله خير‏.‏

وخوفهما من تغير حال القرآن فى المستقبل؛ لقلة حفظته، ومصيره إلى حالة الخفاء والغموض بعد الاستفاضة والظهور، علما صواب ما أشار به وأنه خير، وأن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على الوجوب، ولا تركه لما تركه على الوجوب إلا أن يكون قد بين فى شريعته أن مثل فعله لما فعله، أو تركه لمثل ما تركه لازم لنا وواجب علينا، فلما علما أنه لم يحظر جمع القرآن ولا منع منه بسنة ولا بنص آية، ولا هو مما يفسده العقل ويحيله، ولا يقتضى فساد شىء من أمر الدين ولا مخالفة رأى صواب ما أشار به عمر، وأسرعا إليه كما فعل عمر وسائر الصحابة فى رجوعهم إلى رأى أبى بكر فى قتاله أهل الردة، ورأوا ذلك صوابًا لم يشكوا فيه‏.‏

وربما يشمئز الإنسان أحيانًا من فعل المباح المطلق ويسبق إلى قلبه أنه ليس مما له فعله لفرط احتياطه وتحريه، ثم تبين له بعد ذلك أنه مما له فعله، كرجل قيل له‏:‏ قد سقط عنك فرض الجهاد والصيام والصلاة قائما لزمانتك وعجزك‏.‏

فأنكر مفارقة العادة عند أول وهلة، فلما رجع إلى نفسه، وعلم أن الصيام يجهده والحركة والقيام يزيده فى مرضه علم جواز تركه‏.‏

وقد تقدم فى كتاب الأحكام فى باب يستحب للكاتب أن يكون أمينًا عاقلاً زيادة بيان فى تصويب جمع الصديق للقرآن وأنه من أعظم فضائله‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ فإن قيل‏:‏ فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه‏؟‏ قيل لهم‏:‏ إن عثمان لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف فقط، ولا كان التشاجر الواقع فى أيامه فى إقرارهم أنه كتاب الله بأسره، وإنما اختلفوا فى القراءات، فاشتد الأمر فى ذلك بينهم وعظم اختلافهم وتشتتهم، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه، وتلاعن أهل الشام وأهل العراق، وكتب الناس بذلك إلى عثمان من الأمصار وناشدوه الله فى جمع الكلمة ورفع الشتات والفرقة، فجمع عثمان المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم فى ذلك فاتفقوا على جمع القرآن وعرضه وأخذه للناس بما صح وثبت من القراءات المشهورة عن النبي عليه السلام ، وطرح ما سواها واستصوبوا رأيه، وكان رأيًا سديدًا موفقا، فرحمة الله عليه وعليهم‏.‏

وقد ذكر أبو عبيد بإسناده عن على بن أبى طالب قال‏:‏ لو وليت لفعلت فى المصاحف الذى فعل عثمان‏.‏

قال غيره وقوله‏:‏ ‏(‏حتى وجدت آخر التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع أحد غيره‏)‏ يدل على تصحيح الروايات الأخر أن الصديق أمر زيدًا ألا يثبت آية فى المصحف إلا بشاهدين يشهدان عليها‏.‏

وقال أبو بكر بن الطيب‏:‏ وجه طلبه للشاهدين أن إثبات القرآن حكم من أحكام الشريعة، ولا يجب إمضاء حكم فى الشريعة إلا بشاهدين عدلين‏.‏

ويحتمل أن يكون أمره بطلب الشاهدين فيما لا يحفظه زيد من كلمات القرآن، وقد ورد بذلك خبر‏.‏

وروى أسامة بن زيد عن القاسم بن محمد قال‏:‏ قال أبو بكر لزيد بن ثابت‏:‏ اقعد فمن آتاك من القرآن بما لا تحفظه ولم تقرأه بشاهدين فاقبله‏.‏

ولسنا ننكر أن يكون أبو بكر أمر زيدًا بطلب الشاهدين على كل ما يؤتى به مما يحفظه ومما لا يحفظه؛ لأجل حاجته إلى إمضاء الحكم من جهة الظاهر‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وأفضل ما قيل فى ذلك، ما حدثنا به عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد، قال‏:‏ حدثنا على بن محمد بن لؤلؤ ببغداد، قال‏:‏ حدثنا أحمد بن الصقر بن ثوبان، قال‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد بن حساب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن رجل من بنى تميم يقال له، أحسب، أنس بن مالك، قال‏:‏ اختلف المعلمون فى القرآن حتى اقتتلوا، فبلغ ذلك عثمان، فقال‏:‏ عندى تختلفون وتكذبون به وتلحنون فيه‏؟‏ يا أصحاب محمد اجتمعوا، فاكتبوا للناس إمامًا يجمعهم، فكانوا فى المسجد فكثروا، فكانوا إذا تماروا فى الآية يقولون‏:‏ إنه أقرأ رسول الله هذه الآية فلان بن فلان، وهو على رأس أميال من المدينة، فيبعث إليه فيجئ، فيقولون‏:‏ كيف أقرأك رسول الله آية كذا وكذا‏؟‏ فيكتبون كما قال‏.‏

رواه إسماعيل بن إسحاق، عن سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبى قلابة، قال‏:‏ حدثنى من كان يكتب معهم، قال حماد‏:‏ أظنه أنس بن مالك القشيرى، قال‏:‏ كانوا يختلفون فى الآية، فيقولون‏:‏ أقرأها رسول الله فلان بن فلان، فعسى أن يكون على ثلاث أميال من المدينة، فيرسل إليه فيجاء به‏.‏

وذكر الحديث سواء وقد أشار أبو بكر بن الطيب إلى هذا المعنى غير أنه لم يذكر الرواية بذلك، وقد ذكرته فى كتاب الجهاد فى باب قوله‏:‏ ‏(‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فى حديث زيد بن ثابت أنه وجد آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى، وفى آخر الباب قول ابن شهاب عن خارجة بن زيد أنه سمع أباه زيد بن ثابت قال‏:‏ فقدت آية من الأحزاب كنت أسمع النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت‏:‏ ‏(‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏ وهذا اختلاف يوجب التضاد‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولا تضاد فى هذا، وهذه غير قصة الأحزاب؛ لأن الآية التي في التوبة مع أبي خزيمة، وهو معروف من الأنصار وقد عرفه أنس، وقال‏:‏ نحن ورثناه‏.‏

والتى فى الأحزاب ليست صفة النبى صلى الله عليه وسلم وهذه وجدت مع خزيمة بن ثابت، وهو غير أبى خزيمة، فلا تعارض فى هذا، والقصة غير القصة لا إشكال فيها ولا التباس والسورة غير السورة، والتى فى الأحزاب سمعها زيد وخزيمة من النبى فهما شاهدان على سماعها منه، وإنما أثبتت التى فى التوبة بشهادة أبى خزيمة وحده لقيام الدليل على صحتها فى صفة النبى فهى قرينة تغنى عن طلب شاهد آخر‏.‏

وفى أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التى فيها أسماء الله تعالى وأن ذلك إكرام لها، وصيانة من الوطء بالأقدام وطرحها فى ضياع من الأرض‏.‏

وروى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم، وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة، وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله، وقول من حرقها أولى بالصواب‏.‏

وقد قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ جائز للإمام تحريق الصحف التى فيها القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ اللخاف‏:‏ الحجارة الرقاق، والعسب‏:‏ جمع عَسيب وهى جريدة من النخل، وجمعه عسبان وأعسب من كتاب العين‏.‏

باب ذكر كَاتِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- فيه‏:‏ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، قَالَ‏:‏ أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ الصديق، قَالَ‏:‏ إِنَّكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاتَّبِعِ الْقُرْآنَ، فَتَتَبَّعْتُ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ أَبِى خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الْبَرَاء، قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏،‏)‏ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ‏(‏قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ادْعُ لِى زَيْدًا، وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ، أَوِ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ، ثُمَّ قَالَ اكْتُبْ‏:‏ ‏(‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ ‏(‏وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأعْمَى، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا تَأْمُرُنِى‏؟‏ فَإِنِّى رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ‏؟‏ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا‏:‏ ‏(‏لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏،‏)‏ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ‏(‏،‏)‏ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ‏}‏‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم سن جمع القرآن وكتابته وأمر بذلك وأملاه على كتبته، وأن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق وزيد بن ثابت وجماعة الأمة أصابوا فى جمعه وتحصينه وإحرازه، وجروا فى كتابته على سنن الرسول وسنته، وأنهم لم يثبتوا منه شيئًا غير معروف، وما لم تقم الحجة به‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن السنة للخليفة والإمام أن يتخذ كاتبًا يقيد له ما يحتاج إلى النظر فيه من أمور الرعية، ويعينه على تنفيذ أحكام الشريعة، لأن الخليفة يلزمه من الفكرة والنظر فى أمور من استرعاه الله أمرهم ما يشغله عن الكتاب وشبهه من أنواع المهن، ألا ترى قول عمر بن الخطاب‏:‏ ‏(‏لولا الخلافة لأذنت‏)‏ يريد أن الخلافة حالة شغل بأمور المسلمين عن الأذان وغيره؛ لأن هذا يوجد فيه من يقوم مقام الخليفة وينوب عنه، ولا ينوب عنه أحد فى الإمامة، وقد استدل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ الآية‏.‏

ومن قال‏:‏ إن الغنى أفضل من الفقر‏.‏

قال‏:‏ ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ ففضيلة الجهاد وبذل المال فى إعلاء كلمة الله درجة لا يبلغها الفقير أبدًا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ يدل أن أهل الأعذار لا حرج عليهم فيما لا سبيل لهم إلى فعله من الفرائض اللازمة للأصحاء القادرين، وفى هذا حجة للفقهاء فى قولهم‏:‏ إنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق‏.‏

وهو قول جمهور الفقهاء‏.‏

باب أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏أَقْرَأَنِى جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِى حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ‏:‏ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ‏:‏ كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ‏:‏ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ‏)‏، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ يَا عُمَرُ‏)‏، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِى أَقْرَأَنِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد أكثر الناس فى تأويل هذا الحديث ولم أجد فيه قولاً يسلم من المعارضة، وأحسن ما رأيت فيه ما نقله أبو عمر عثمان بن سعيد المقرئ فى بعض كتبه، ولم يسم قائله، قال‏:‏ إنى تدبرت معنى هذا الحديث وأمعنت النظر فيه بعد وقوفى على أقاويل السلف والخلف، فوجدته متعلقًا بخمسة أوجه، هى محيطة بجميع معانيه‏:‏ فأولها‏:‏ أن يقال‏:‏ ما معنى الأحرف التى أرادها النبى صلى الله عليه وسلم‏؟‏ وكيف تأويلها‏؟‏ والثانى‏:‏ ما وجه إنزال القرآن على هذه السبعة الأحرف، وما المراد بذلك‏؟‏ والثالث‏:‏ فى أى شىء يكون اختلاف هذه السبعة الأحرف‏؟‏ والرابع‏:‏ على كم معنى تشتمل هذه السبعة الأحرف‏؟‏ والخامس‏:‏ هل هذه السبعة الأحرف كلها متفرقة فى القرآن، موجودة فيه فى ختمة واحدة، حتى إذا قرأ القارئ بأى حرف من حروف أئمة القراء بالأمصار المجتمع على إمامتهم فقد قرأ بها كلها‏؟‏ أو ليست كلها متفرقة فيه وموجودة فى ختمة واحدة‏؟‏ وأنا مبين ذلك إن شاء الله‏.‏

فأما معنى الأحرف التى أوردها النبى صلى الله عليه وسلم هاهنا فإنه يتوجه إلى وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون أراد سبعة أوجه من اللغات بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏، فالمراد بالحرف هاهنا الوجه الذى تقع عليه العبادة‏.‏

والمعنى‏:‏ ومن الناس من يعبد الله على النعمة تصيبه، والخير يناله من تثمير المال، وعافية البدن، وإعطاء السؤل، ويطمئن إلى ذلك ما دامت له هذه الأمور واستقامت، فإن تغيرت حاله، وامتحنه الله بالشدة فى عيشه والضر فى بدنه ترك عبادة ربه وكفر به، فهذا عَبَد الله على وجه واحد، وذلك معنى الحرف والوجه‏.‏

الثانى‏:‏ أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم سمى القراءات أحرفًا على طريق السعة كنحو ما جرت عليه عادة العرب فى تسميتهم الشىء باسم ما هو منه وما قاربه وما جاوره، وتعلق به ضربًا من التعلق وتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فسمى النبى القراءة حرفًا، وإن كان كلامًا كثيرًا من أجل أن منها حرفًا قد غير بضمة أو كسر أو قلب إلى غيره، أو أميل أو زيد فيه أو نقص منه على ما جاء فى المختلف فيه من القراءات، فنسب النبى القراءة والكلمة التامة إلى ذلك الحرف المغير، فسمى القراءة به؛ إذ كان ذلك الحرف منها على عادة العرب فى ذلك كما يسمون القصيدة قافية، إذ كانت القافية كقول الخنساء‏:‏ وقافية مثل حد السنان تبقى ويهلك من قالها تعنى‏:‏ قصيدة، فسميت قافية على طريق الاتساع، كما يسمون الرسالة والخطبة‏:‏ كلمة، إذ كانت الكلمة منها‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏، وقيل‏:‏ إنه تعالى عنى بالكلمة هاهنا قوله فى سورة القصص‏:‏ ‏(‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏ الآية‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 26‏]‏، قال‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

فخاطبهم صلى الله عليه وسلم بما جرى تعارفهم عليه فى خطابهم‏.‏

وأما وجه إنزال القرآن على هذه السبعة الأحرف، وما أراد الله بذلك، فإنما ذلك توسعة من الله على عباده ورحمة لهم وتخفيفًا عنهم لما هم عليه من اختلاف اللغات واستصعاب مفارقة كل فريق منهم لطبعه وعادته فى الكلام إلى غيره، فخفف الله عنهم بأن أقرأهم على مألوف طبعهم وعادتهم فى كلامهم، يدل على ذلك ما روى أبو عبيدة من حديث حذيفة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لقيت جبريل عند أحجار المرى فقلت‏:‏ يا جبريل، إنى أرسلت إلى أمة أمية‏:‏ الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفانى الذى لم يقرأ كتابًا قط‏.‏

قال‏:‏ إن القرآن أنزل على سبعة أحرف‏)‏‏.‏

روى حماد بن سلمة من حديث أبى بكرة ‏(‏أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اقرأ القرآن على حرف‏.‏

فقال ميكائيل‏:‏ استزده‏.‏

فقال‏:‏ اقرأ على حرفين‏.‏

فقال ميكائيل‏:‏ استزده حتى بلغ سبعة أحرف كل كاف شاف‏)‏‏.‏

ويمكن أن تكون هذه السبعة أوجه من اللغات هى أفصح اللغات، فلذلك أنزل القرآن عليها‏.‏

ذكر ثابت السرقطى فى هذا المعنى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏سبعة أحرف‏)‏ يريد والله أعلم على لغات شعوب من العرب سبعة أو جماهيرها كما قال الكلبي‏:‏ خمسة منها لهوازن وحرفان لسائر الناس‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ نزل القرآن على سبعة أحرف صارت فى عجز هوازن منها خمسة‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ عجز هوازن ثقيف، وبنو سعد ابن بكر، وبنو جشم، وبنو مضر، قال أبو حاتم‏:‏ خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي عليه السلام ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة أخوان‏.‏

قال قتادة عن سعيد بن المسيب‏:‏ نزل القرآن على لغة هذا الحي من لدن هوازن وثقيف إلى ضربه‏.‏

وأما فى أى شيء يكون اختلاف هذه السبعة أحرف فإنه يكون فى أوجه كثيرة منها تغير اللفظ نفسه وتحويله إلى لفظ آخر، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ بغير ألف، و‏)‏ مالك ‏(‏بألف، والسراط بالسين والصاد والزاى ومنها الإثبات والحذف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116‏]‏،‏)‏ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏،‏)‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 107‏]‏ بالواو وبغير واو، ومنها تبديل الأدوات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 217‏]‏ فى الشعراء بالفاء، وتوكل بالواو ‏(‏فلا يخاف عقابها‏)‏ بالفاء، ولا يخاف عقابها بالواو، ومنها التوحيد والجمع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الريح ‏(‏و‏)‏ الرياح ‏(‏، ومنها‏)‏ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏، و‏)‏ رسالاته ‏(‏و‏)‏ آية للسائلين ‏(‏و‏)‏ آيات‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ التذكير والتأنيث كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ بالياء والتاء، و ‏(‏فناداه الملائكة‏)‏ و‏)‏ فَنَادَتْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏، و ‏(‏استهواه الشياطين‏)‏ و‏)‏ اسْتَهْوَتْهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏، ومنها التشديد والتخفيف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏ بتشديد الذال وتخفيفها، ومنها الخطاب والإخبار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏ و‏)‏ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 68‏]‏،‏)‏ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 13‏]‏، وشبه ذلك بالتاء على الخطاب، وبالياء على الإخبار، ومنها الإخبار عن النفس، والإخبار عن غير النفس، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ بالنون وبالياء،‏)‏ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 100‏]‏ بالنون والياء، ومنها التقديم والتأخير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقتلوا وقاتلوا‏)‏،‏)‏ وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏ و‏)‏ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏، وكذلك ‏(‏زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم‏)‏ و‏)‏ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 137‏]‏ وشبهه‏.‏

ومنها‏:‏ النهى والنفى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تسل عن أصحاب الجحيم‏)‏ بالجزم على النهى‏)‏ وَلاَ تُسْأَلُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 119‏]‏ بالرفع على النفى، ‏(‏ولا تشرك فى حكمه أحدًا‏)‏ بالتاء والجزم على النهى‏)‏ وَلاَ يُشْرِكُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 26‏]‏ بالياء والرفع على النفى‏.‏

ومنها‏:‏ الأمر والإخبار كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ بكسر الخاء على الأمر ‏(‏واتخَذوا‏)‏ بالفتح على الإخبار، و ‏(‏قل سبحان الله‏)‏ و ‏(‏قل ربى يعلم‏)‏ على الأمر، وقال على الخبر، وشبهه‏.‏

ومنها‏:‏ تغير الإعراب وحده كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 240‏]‏ بالنصب وبالرفع و‏)‏ تِجَارَةً حَاضِرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ بالرفع والنصب،‏)‏ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ بالنصب والجر، وما أشبهه‏.‏

ومنها‏:‏ تغيير الحركات اللوازم كقوله‏:‏ ‏(‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ بكسر السين وفتحها‏)‏ وَمَن يَقْنَطُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 56‏]‏، و‏)‏ يَقْنَطُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 36‏]‏ بكسر النون وفتحها، و‏)‏ يَعْرِشُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏ و‏)‏ يَعْكُفُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏ بكسر الراء والكاف وضمها و‏)‏ الْوَلاَيَةُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 44‏]‏ بكسر الواو وفتحها‏.‏

ومنها‏:‏ التحريك والتسكين كقوله‏:‏ ‏(‏خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 168‏]‏ بضم الطاء وإسكانها، و‏)‏ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏ بفتح الدال وإسكانها‏.‏

ومنها‏:‏ الاتباع وتركه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 174‏]‏، و‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 117‏]‏،‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 10‏]‏، بالضم والكسر؛ فالضم لالتقاء الساكنين اتباعًا لضم ما بعدهن، وبالكسر للساكنين من غير اتباع، ومنها الصرف وتركه كقوله‏:‏ ‏(‏وَعَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 70‏]‏، و‏)‏ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 68‏]‏ بالتنوين وتركه‏.‏

ومنها‏:‏ اختلاف اللغات كقوله‏:‏ ‏(‏جِبْرِيلَ ‏(‏بكسر الجيم من غير همز، وبفتحها كذلك، وجَبرئيَل بفتح الجيم والراء مع الهمز من غير مد، وبالهمز والمد‏.‏

ومنها‏:‏ التصرف فى اللغات نحو الإظهار والإدغام، والمد والقصر والإمالة، والفتح وبين بين والهمز وتخفيفه بالحذف والبدل وبين بين، والإسكان والروم والإشمام عند الوقف على أواخر الكلم، والسكون على الساكن قبل الهمزة وما أشبهه، وقد ورد التوقيف عن النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الضرب من الاختلاف وأذن فيه لأمته بالأخبار الثابتة، وفيما روى أبو عبيد قال‏:‏ حدثنا نعيم بن حماد حدثنا بقية بن الوليد، عن حصين بن مالك قال‏:‏ سمعت شيخًا يكنى أبا محمد، عن حذيفة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقرءوا القرآن بلحن العرب وأصواتها‏)‏ ولحونها وأصواتها‏:‏ مذاهبها وطباعها‏.‏

ووجه هذا الاختلاف فى القرآن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل فى كل عام عرضة، فلما كان العام الذى توفى فيه عرضه عليه مرتين، فكان جبريل يأخذ عليه فى كل عرضة بوجه من هذه الوجوه والقراءات المختلفة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن القرآن أنزل عليها، وإنها كلها كاف شاف‏)‏ وأباح لأمته القراءة بما شاءت منها مع الإيمان بجميعها؛ إذ كانت كلها من عند الله منزلة، ومنه صلى الله عليه وسلم مأخوذة، ولم يلزم أمته حفظها كلها ولا القراءة بأجمعها؛ بل هى مخيرة فى القراءة بأى حرف شاءت منها كتخييرها إذا حنثت فى يمين أن تكفر إن شاءت بعتق أو بإطعام أو بكسوة، وكالمأمور فى الفدية بالصيام أو الصدقة أو النسك، ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم صوب من قرأ ببعضها كما صوب قراءة هشام بن حكيم وقراءة عمر بن الخطاب حين تناكرا القراءة وأقر أنه كذلك قرئ عليه، وكذلك أنزل عليه‏.‏

وأما على كم وجه يشتمل اختلاف هذه السبعة الأحرف؛ فإنه يشتمل على ثلاثة معان‏:‏ أحدها‏:‏ اختلاف اللفظ والمعنى واحد، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الصِّرَاطَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ بالصاد والسين والزاى و‏)‏ عليهم ‏(‏و‏)‏ إليهم ‏(‏بضم الهاء مع إسكان الميم، وبكسر الهاء مع ضم الميم وإسكانها وشبه ذلك‏.‏

والثانى‏:‏ اختلاف اللفظ، والمعنى جميعًا مع جواز أن يجتمعا فى شىء واحد، لعدم تضاد اجتماعهما فيه، نحو قوله‏:‏ ‏(‏ملك يوم الدين‏)‏ بغير الألف، و‏)‏ مالك ‏(‏بالألف لأن المراد بهاتين القراءتين هو الله سبحانه، وذلك أنه مالك يوم الدين وملكه، فقد اجتمع له الوصفان جميعًا فأخبر بذلك فى القراءتين ونحو ذلك‏:‏ ‏(‏بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏، بتخفيف الذال وتشديدها؛ لأن المراد بهاتين القراءتين جميعًا هم المنافقون، وذلك أنهم كانوا يكذبِون فى أخبارهم ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والثالث‏:‏ اختلاف اللفظ والمعنى جميعًا مع امتناع جواز اجتماعهما فى شىء واحد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 110‏]‏ بالتشديد؛ لأن المعنى‏:‏ وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم فيما أخبروهم به من أنه إن لم يؤمنوا بهم نزل العذاب بهم، فالظن فى القراءة الأولى يقين والضمير الأول للرسل، والثانى للمرسل إليهم، والظن فى القراءة الثانية شك، والضمير الأول للمرسل إليهم والثانى للرسل، ويشبه ذلك من اختلاف القراءتين اللتين لا يصح أن تجتمعا فى شىء واحد لتضاد المعنى، وكل قراءة منهما بمنزلة آية قائمة بنفسها‏.‏

وأما هذه السبعة الأحرف؛ فإنه لا يمكن القراءة بها فى ختمة واحدة، فإذا قرأ القارئ برواية من رواية القراء، فإنما قرأ ببعضها لا بكلها؛ لأنا قد أوضحنا قبل أن المراد بالسبعة أحرف سبعة أوجه من اللغات كنحو اختلاف الإعراب والحركات والسكوت، والإظهار والإدغام، والمد والقصر وغير ذلك مما قدمناه‏.‏

وإذا كان كذلك فمعلوم أنه من قرأ بوجه من هذه الأوجه، فإنه لا يمكنه أن يحرك الحرف ويسكنه فى حالة واحدة أو يقدمه ويؤخره، أو يظهره ويدغمه، أو يمده ويقصره، أو يفتحه ويمليه وشبه ذلك، غير أنا لا ندري أى هذه السبعة أحرف كان آخر العرض، وأن جميع هذه الأحرف قد ظهر واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وضبطتها الأمة على اختلافها عنه، وأن معنى إضافة كل حرف إلى من أضيف إليه كأُبى وزيد وغيرهم من قبل أنه كان أضبط له وأكثر قراءة وأقرأ به، وكذلك إضافة القراءات إلى أئمة القراء بالأمصار، على معنى أن ذلك الإمام اختار القراءة بذلك الحرف، وآثره على غيره، ولزمه وأخذ عنه فلذلك أضيف إليه، وهذه إضافة اختيار لا إضافة اختراع‏.‏

قال أبو جعفر الداودى‏:‏ والسبع المقارئ التى يتعلمها الناس اليوم ليس كل حرف منها هو أحد السبعة التى أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد يكون فى حرف من هذه شىء من إحدى أولئك السبع، وشىء من الأخرى‏.‏

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ وهذه السبع القراءات التى بأيدى الناس إنما تفرعت من حرف واحد من السبعة التى فى الحديث وهو الحرف الذى جمع عليه عثمان المصحف ذكر ذلك ابن النحاس وغيره‏.‏

باب تَأْلِيفِ الْقُرْآن

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، جَاءَهَا عِرَاقِىٌّ، فَقَالَ‏:‏ أَىُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ وَيْحَكَ، وَمَا يَضُرُّكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَرِينِى مُصْحَفَكِ، قَالَتْ‏:‏ لِمَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَعَلِّى أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ، قَالَتْ‏:‏ وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ‏؟‏ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإسْلامِ نَزَلَ الْحَلالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَىْءٍ لا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا‏:‏ لا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ‏:‏ لا تَزْنُوا، لَقَالُوا‏:‏ لا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّى لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ‏:‏ ‏(‏بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلا وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ‏:‏ فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ، فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آىَ السُّوَرِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، قَالَ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالأنْبِيَاءِ‏:‏ إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلادِى‏.‏

- وفيه‏:‏ الْبَرَاء، قَالَ‏:‏ تَعَلَّمْتُ‏:‏ ‏(‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، قَالَ‏:‏ لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِى كُلِّ رَكْعَةٍ، فَسَأَلنا عَلْقَمَة، فَقَالَ‏:‏ عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ الْحَوَامِيمُ ‏(‏حم الدُّخَانِ‏)‏، و ‏(‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ‏)‏‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ إن قال قائل‏:‏ قد اختلف السلف فى ترتيب سور القرآن فمنهم من كتب فى مصحفه السور على تاريخ نزولها وقدم المكى على المدنى، ومنهم من جعل فى أول مصحفه‏)‏ الْحَمْدُ للّهِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏، ومنهم من جعل فى أوله‏)‏ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، وهذا أول مصحف علىّ‏.‏

وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله ‏(‏ملك يوم الدين‏)‏، ثم البقرة ثم النساء على ترتيب يختلف‏.‏

روى ذلك طلحة بن مصرف أنه قرأه على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على علقمة، وقرأ علقمة على عبد الله، ومصحف أُبىّ كان أوله‏:‏ الحمد لله ثم البقرة، ثم النساء ثم آل عمران، ثم الأنعام ثم الأعراف، ثم المائدة ثم كذلك على اختلاف شديد‏.‏

قال أبو بكر‏:‏ فالجواب‏:‏ أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هى عليه اليوم فى المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة، وقد قال قوم من أهل العلم‏:‏ إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه فى مصحفنا كان على توقيف من النبى صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك وأمر به‏.‏

وأما ما روى من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك‏.‏

روى يونس عن ابن وهب قال‏:‏ سمعت مالكًا يقول‏:‏ إنما أُلف القرآن على ما كانوا يسمعونه من قراءة رسول الله، ومن قال هذا القول لا يقول‏:‏ إن تلاوة القرآن فى الصلاة والدرس يجب أن يكون مرتبًا على حسب الترتيب الموقف عليه فى المصحف؛ بل إنما يجب تأليف سوره فى الرسم والكتابة خاصة‏.‏

ولا نعلم أن أحدًا منهم قال‏:‏ إن ترتيب ذلك واجب فى الصلاة، وفى قراءة القرآن ودرسه وإنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج بعد الكهف، ألا ترى قول عائشة للذى سألها أن تريه مصحفها ليكتب مصحفًا على تأليفه‏:‏ لا يضرك أيه قرأت قبل‏؟‏ وأن ما روى عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسًا، وقالا‏:‏ ذلك منكوس القلب‏.‏

فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها إلى أولها؛ لأن ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا فى القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك، ويقتدر على الحفظ وهذا مما حظره الله ومنعه فى قراءة القرآن؛ لأنه إفسادٌ لسوره، ومخالفة لما قصد بها، ومما يدل أنه لا يجب إثبات القرآن فى المصاحف على تاريخ نزوله؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يجعلوا بعض آية سورة فى سورة أخرى وأن ينقصوا ما وقفوا عليه من سياقه ترتيب السور ونظامها؛ لأنه قد صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فيؤمروا بإثباتها في السورة المكية، ويقال لهم‏:‏ ضعوا هذه الآية فى السورة التى يذكر فيها كذا‏.‏

ألا ترى قول عائشة‏:‏ وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، يعنى بالمدينة، وقد قدمنا فى المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة، ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ بالناس فى الصلاة السورة فى الركعة ثم يقرأ فى ركعة أخرى بغير السورة التى تليها، وقول ابن مسعود فى بنى إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء‏:‏ هى من العتاق الأول وهن من تلادى، يعنى هن مما نزل من القرآن أولاً‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ العتيق القديم من كل شىء، والتلاد‏:‏ ما كسب من المال قديمًا فيريد أنهن من أول ما حفظه من القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ثاب الناس إلى الإسلام‏)‏‏:‏ رجعوا إليه‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ ثاب الشىء يثوب ثؤوبا رجع‏.‏

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏، أى يرجعون إليه‏.‏

باب الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم

- فيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ذكر ابْن مَسْعُود، فَقَالَ‏:‏ لا أَزَالُ أُحِبُّهُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ‏:‏ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذ، وَأُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ فيه مسروق‏:‏ خَطَبَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابى أَنِّى مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ‏.‏

قَالَ شَقِيقٌ‏:‏ فَجَلَسْتُ فِى الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ‏.‏

- وَقَالَ فيه عَلْقَمَةَ‏:‏ كُنَّا بِحِمْصَ، فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، قَالَ‏:‏ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَحْسَنْتَ‏)‏، وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ، فَقَالَ‏:‏ أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَشْرَبَ الْخَمْرَ‏؟‏ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ‏.‏

- وفيه‏:‏ مَسْرُوق، قَالَ‏:‏ قَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ وَاللَّهِ الَّذِى لا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلا أَنَا أَعْلَمُ، أَيْنَ أُنْزِلَتْ‏؟‏ وَلا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ‏؟‏ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّى بِكِتَابِ اللَّهِ تُبَلِّغُهُ الإبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ الرسول صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأنْصَارِ‏:‏ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ‏.‏

- وَقَالَ أَنَس مرة‏:‏ مَاتَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ‏:‏ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ‏.‏

وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ عُمَرُ‏:‏ أُبَىٌّ أَقْرَؤُنَا، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحَنِ أُبَىٍّ، وَأُبَىٌّ يَقُولُ‏:‏ أَخَذْتُهُ مِنْ فِى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلا أَتْرُكُهُ لِشَىْءٍ‏.‏

قَالَ تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة 106‏]‏‏.‏

قال أبو بكر بن الطيب‏:‏ لا تدل هذه الآثار على أن القرآن لم يحفظه فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم غير عبد الله وسالم، ومعاذ وأُبىّ ابن كعب، وأنه لم يجمعه غير أربعة من الأنصار كما قال أنس بن مالك، فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان وعلىّ، وتميم الدارى وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثبت أنه سأل النبي في كم يقرأ القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ في شهر‏.‏

فقال‏:‏ إني أطيق أكثر من ذلك‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

فجمعه عمرو بن العاص وغيره‏.‏

روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أقرأ خمس عشرة سجدة فى القرآن، منها ثلاث فى المفصل، وفى الحج سجدتان‏.‏

ذكر الأسانيد بذلك أبو بكر بن الطيب فى كتاب الانتصار‏.‏

فقول أنس‏:‏ لم يجمع القرآن غير أربعة‏.‏

قول يتعذر العلم بحقيقة ظاهره، وله وجوه من التأويل‏:‏ أحدها‏:‏ أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحرف، والقراءات التى نزل بها إلا أولئك النفر فقط وهذا غير بعيد؛ لأنه لا يجب على سائرهم ولا على أولئك النفر أيضًا أن يجمعوا القرآن على جميع حروفه ووجوهه السبعة، والثانى‏:‏ أنه لم يجمع القرآن ويأخذه تلقينًا من فىّ النبى صلى الله عليه وسلم غير تلك الجماعة فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره، والثالث‏:‏ أن يكون لم يجمع القرآن على عهد النبى من انتصب لتلقينه، وأقرأ الناس له غير تلك الطبقة المذكورة‏.‏

وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم لأجل سبقهم إلى الإسلام وإعظام الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وقد ثبت عن الصديق بقراءته فى المحراب بطوال السور التى لا يتهيأ حفظها إلا لأهل القدرة على الحفظ والإتقان، فروى ابن عيينة، عن الزهرى، عن أنس أن أبا بكر الصديق قرأ فى الصبح بالبقرة فقال عمر‏:‏ كادت الشمس أن تطلع فقال‏:‏ لو طلعت لم تجدنا غافلين، وقد علم أن كثيرًا من الحفاظ وأهل الدربة بالقرآن يتهيبون الصلاة بالناس بمثل هذه السور الطوال وما هو دونها، وهذا يقتضى أن أبا بكر كان حافظًا للقرآن، وقد صح الخبر أنه بنى مسجدًا بفناء داره بمكة قبل الهجرة، وأنه كان يقوم فيه بالقرآن ويكثر بكاؤه ونشيجه عند قراءته فتقف عليه نساء المشركين وولدانهم يسمعون قراءته، لولا علم النبى صلى الله عليه وسلم بذلك من أمره لم يقدمه لإمامة المسلمين مع قوله‏:‏ يؤم القوم أقرؤهم‏.‏

وكذلك تظاهرت الروايات عن عمر أنه كان يؤم الناس بالسور الطوال، وقد أمهم بسورة يوسف فى الصبح فبلغ إلى قوله‏:‏ ‏(‏وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 84‏]‏، فنشج حتى سمع بكاؤه من وراء الصفوف‏.‏

وقرأ مرة سورة الحج فسجد فيها سجدتين‏.‏

وروى عبد الملك بن عمير عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود قال‏:‏ كان عمر أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا فى دين الله، ولولا أن هذه كانت حالته، وأنه من أقرأ الناس لكتاب الله لم يكن أبو بكر الصديق بالذى يضم إليه زيد بن ثابت، ويأمرهما بجمع القرآن واعتراض ما عند الناس، ويجعل زيدًا تبعًا له؛ لأنه لا يجوز أن ينصب لجمع القرآن واعتراضه من ليس بحافظ‏.‏

وأما عثمان فقد اشتهر أنه كان ممن جمع القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وأنه كان من أهل القيام به، وقد قال حين أرادوا قتله فضربوه بالسيف على يده فمدها وقال‏:‏ والله إنها لأول يد خطت المفصل، وقالت نائلة زوجته‏:‏ إن نقتلوه فإنه كان يحيى الليل بجميع القرآن فى ركعة‏.‏

وكذلك على بن أبى طالب، قد عرفت حاله فى فضله وثاقب فهمه، وسعة علمه ومشاورة الصحابة له، وإقرارهم لفضله وتربية النبي له وأخذه له بفضائل الأخلاق، وترغيبه صلى الله عليه وسلم فى تخريجه وتعليمه، وما كان يرشحه له ويثيبه عليه من أمره نحو قوله‏:‏ أقضاكم علىّ، ومن البعيد أن يقول هذا فيه وليس من قراء الأمة، وقد كان يقرأ القرآن، وقرأ عليه أبو عبد الرحمن السلمى وغيره، وروى همام، عن ابن أبى نجيح، عن عطاء بن السائب أن أبا عبد الرحمن حدثه قال‏:‏ ما رأيت رجلاً أقرأ للقرآن من علىّ بن أبى طالب، صلى بنا الصبح، فقرأ سورة الأنبياء فأسقط آية، فقرأ ثم رجع إلى الآية التى أسقطها فقرأها، ثم رجع إلى مكانه الذى انتهى إليه لا يتتعتع‏.‏

فإذا صح ما قلناه مع ما ثبت من تقدمهم وتقدمة الرسول لهم وجب أن يكونوا حفاظًا للقرآن، وأن يكون ذلك أولى من الأخبار التى ذكر فيها أن الحفاظ كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة ليس منهم أحد من هؤلاء الأئمة القادة الذين هم عمدة الدين وفقهاء المسلمين‏.‏

باب فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، كُنْتُ أُصَلِّى، فَدَعَانِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ ‏(‏‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَلا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ‏)‏، فَأَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ قُلْتَ‏:‏ لأعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد الْخُدْرِىِّ، كُنَّا فِى مَسِيرٍ لَنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ‏:‏ إِنَّ سَيِّدَ الْحَىِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ‏؟‏ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ، فَبَرَأَ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ، قُلْنَا لَهُ‏:‏ أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً أَوْ كُنْتَ تَرْقِى‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، مَا رَقَيْتُ إِلا بِأُمِّ الْكِتَابِ، قُلْنَا‏:‏ لا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَمَا كَانَ يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ‏؟‏ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِى بِسَهْمٍ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إن قال قائل‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأعلمنك أعظم سورة من القرآن‏)‏ يدل على تفاضل القرآن، قيل له‏:‏ ليس كما توهمت؛ لأنه يحتمل أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعظم سورة فى القرآن، أى أعظم نفعًا للمتعبدين؛ لأن أم القرآن لا تجزئ الصلاة إلا بها، وليس ذلك لغيرها من السور، ولذلك قيل لها‏:‏ السبع المثانى؛ لأنها تثنى فى كل صلاة هذا قول على بن أبى طالب، وأبى هريرة وغيرهما، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هى السبع المثانى تفسير لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏، أن المراد بها فاتحة الكتاب، وقد روى عن السلف أقوال أخر فى تفسير السبع المثانى، فروى عن ابن عباس وابن مسعود أنها السبع الطوال؛ لأن الفرائض والقصص تثنى فيها، ويجوز أن يكون المثانى القرآن كله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِىَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏؛ لأن الأخبار تثني فيه‏.‏

ومما يدل أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأعلمنك أعظم سورة‏)‏ لا يوجب تفاضل القرآن بعضه على بعض فى ذاته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، ولم يختلف أهل التأويل فى أن الله تعالى لم يرد بقوله‏:‏ ‏(‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، تفضيل بعض الآيات على بعض، وإنما المراد بخير منها لعباده المؤمنين التالين لها، إما بتخفيف وعفو، أو بثواب على عمل، ولو قال قائل‏:‏ أيما أفضل‏:‏ آية رحمة، أو آية عذاب، أو آية وعد، أو آية وعيد‏؟‏ لم يكن لهذا جواب‏.‏

ومن اختار التفاضل فى القرآن فقد أوجب فيه النقص، وأسماء الله تعالى وصفاته وكلامه لا نقص فى شىء منها فيكون بعضه أفضل من بعض، وكيف يجوز أن يكون شىء من صفاته منقوصًا غير كامل وهو قادر على أن يتم المنقوص حتى يكون فى غاية الكمال، فلا يلحقه فى شىء من صفاته نقص، تعالى الله عن ذلك، وسأزيد فى بيان هذا فى فضل‏)‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ويحتمل قوله‏:‏ لأعلمنك أعظم سورة وجهًا آخر، وهو أن يكون أعظم بمعنى سورة عظيمة كما قيل الله أكبر، بمعنى‏:‏ كبير، وكما قيل فى اسم الله الأعظم بمعنى‏:‏ عظيم، وقد تقدم الكلام فى حديث أبى سعيد الخدرى فى كتاب الإجازة فى باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب ومعنى قوله ما يدريك أنها رقية فتأمله هناك‏.‏

وقوله‏:‏ ما كنا نأبنه، قال صاحب الأفعال‏:‏ أبنت الرجل بخير أو شر نسبتهما إليه‏.‏

أبنه أبنًا‏.‏

باب فَضْلِ الْبَقَرَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو مَسْعُود، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ وَكَّلَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِى آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ‏:‏ لأرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏‏.‏

فَقَصَّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ، فَإنَّهُ لن يَزَالَ عليك مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ‏)‏، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إذا كان من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه، ومن قرأ آية الكرسى كان عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، فما ظنك بمن قرأها كلها من كفاية الله له وحرزه وحمايته من الشيطان وغيره، وعظيم ما يدخر له من ثوابها‏.‏

وقد روى هذا المعنى عن النبى صلى الله عليه وسلم وروى معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن أبى أمامة قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏تعلموا القرآن؛ فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة، تعلموا البقرة وآل عمران، تعلموا الزهراوين، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، وتعلموا البقرة فإن تعلمها بركة وإن فى تركها حسرة ولا تطيقها البطلة‏)‏‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ إن الشيطان يخرج من البيت الذى يقرأ سورة البقرة فيه‏.‏

باب فَضْلِ الْكَهْفِ

- فيه‏:‏ الْبَرَاء، كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ، وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَ يَدْنُو وَيَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى الثورى، عن أبى هاشم الواسطى، عن أبى مجلز، عن قيس بن عبادة عن أبى سعيد الخدرى قال‏:‏ من قرأ سورة الكهف كما أنزلت ثم أدرك الدجال لم يسلط عليه، ومن قرأ آخر سورة الكهف أضاء نوره من حيث قرأها ما بينه وبين مكة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال‏.‏

والحصان‏:‏ الفحل من الخيل، والشطن‏:‏ الحبل، عن صاحب العين‏.‏

واختلف أهل التأويل فى تفسير السكينة، فروى عن علىّ بن أبى طالب أنه قال‏:‏ هى ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان‏.‏

وروي عنه أنها ريح حجوج ولها رأسان‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ السكينة لها رأس الهر وجناحان وذنب كذنب الهر‏.‏

وعن ابن عباس والربيع‏:‏ هى دابة مثل الهر، لعينها شعاع فإذا التقى الجمعان أخرجت يدها فنظرت إليهم فيهزم إليهم ذلك الجيش من الرعب‏.‏

وعن ابن عباس والسدى‏:‏ هى طست من ذهب من الجنة يغسل فيها قلوب الأنبياء‏.‏

وعن أبى مالك‏:‏ طست من ذهب ألقى موسى فيه التوراة والألواح والعصا ‏,‏ وعن وهب‏:‏ السكينة‏:‏ روح من الله تتكلم إذا اختلفوا فى شىء بين لهم ما يريدون‏.‏

وعن الضحاك‏:‏ السكينة‏:‏ الرحمة‏.‏

وعن عطاء‏:‏ السكينة‏:‏ ما تعرفون من الآيات فتستكينون إليها‏.‏

وهذ اختيار الطبرى‏.‏

وتنزل السكينة لسماع القرآن يدل على خلاف قول السدى أنها طست من ذهب، ويشهد لصحة قول من قال‏:‏ أنها روح أو شيء فيه روح، والله أعلم‏.‏

باب فَضْلِ سُورَةِ الْفَتْحِ

- فيه‏:‏ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أنَّهُ كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِى بعض أسفاره ليلاَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثلاثًا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ مَرَّاتٍ كُلَّ ذَلِكَ لا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ‏:‏ فَحَرَّكْتُ بَعِيرِى حَتَّى كُنْتُ أَمَامَ النَّاسِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِىَّ قُرْآنٌ، فَمَا فَجِئْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِىَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ‏)‏، ثُمَّ قَرَأَ‏)‏ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قال الطبري‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لهى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس‏؟‏ أكان النبى يحب الدنيا الحب الذى يقارب حبه، ما أخبره الله به أنه أعطاه من الكرامة، وشرفه به من الفضيلة بقوله‏:‏ ‏(‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏ الآية، وقد علمت أن المخبر إنما أراد المبالغة فى الخبر عن رفعة قدر النبى عنده على غيره أنه يجمع بين رفيعين من الأشياء عنده، وعن المخبرين به فيخبرهم عن فضل مكان أحدهما على الآخر عنده، وقد علمت أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن للدنيا عنده من القدر ما يعدك أدنى كرامة أكرمه الله تعالى بها فما وجه قوله‏:‏ هى أحب إلىّ من الدنيا مع خساسة قدر الدنيا عنده وضعة منزلتها‏.‏

قيل‏:‏ لذلك وجهان أحدهما‏:‏ أن يكون معنى قوله‏:‏ هى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس، هى أحب إلىّ من كل شىء؛ لأنه لا شىء إلا الدنيا والآخرة، فأخرج الخبر عن ذكر الشىء بذكر الدنيا؛ إذ كان لا شىء سواها إلا الآخرة‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ أن يكون خاطب أصحابه بذلك، على ما قد جرى من استعمال الناس بينهم فى مخاطبتهم، من قولهم إذا أراد أحدهم الخبر عن نهاية محبته للشئ‏:‏ هو أحب إلىّ من الدنيا، وما أعدل به من الدنيا شيئًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 15‏]‏، ومعنى ذلك‏:‏ لنهيننه ولنذلنه؛ لأن الذين خوطبوا هذا الخطاب كان فى إذلالهم من أرادوا إذلاله السفع بالناصية، فخاطبهم بالذى كانوا يتعارفون بينهم، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أحب إلىّ مما طلعت الشمس‏)‏‏.‏

باب فَضْلِ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ‏:‏ ‏(‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ أَبُو سَعِيد فِى حديثه مرة‏:‏ إن النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ‏:‏ ‏(‏أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِى لَيْلَةٍ‏)‏‏؟‏ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا‏:‏ أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى معنى قوله‏:‏ إنها تعدل ثلث القرآن، فقال أبو الحسن بن القابسى‏:‏ لعل الرجل الذى بات يردد‏)‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ كانت منتهى حفظه، فجاء يقلل عمله، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنها لتعدل ثلث القرآن ترغيبًا له فى عمل الخير وإن قل، ولله تعالى أن يجازى عبدًا على يسير بأفضل مما يجازى آخر على كثير، وقال غيره‏:‏ معنى قوله‏:‏ إنها تعدل ثلث القرآن أن الله جعل القرآن ثلاثة أجزاء‏:‏ أحدها‏:‏ القصص والعبر والأمثال، والثانى‏:‏ الأمر والنهى والثواب والعقاب، والثالث‏:‏ التوحيد والإخلاص، وتضمنت هذه السورة صفة توحيده تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والوالد والولد، فجعل لقارئها من الثواب كثواب من قرأ ثلث القرآن‏.‏

واحتجوا بحديث أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ أيعجز أحدكم أن يقرأ كل ليلة ثلث القرآن‏؟‏ قالوا‏:‏ نحن أعجز‏.‏

قال‏:‏ إن الله جزء القرآن فجعل‏)‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ جزءًا من أجزاء القرآن‏.‏

قال المهلب‏:‏ وحكاه عن الأصيلى، وهو مذهب الأشعرى وأبى بكر بن الطيب، وابن أبى زيد والداودى، وابن القابسى وجماعة علماء السنة‏:‏ أن القرآن لا يفضل بعضه على بعض؛ إذ كله كلام الله وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز التفاضل إلا فى المخلوقات؛ لأن المفضول ناقص عن درجة الفاضل وصفات الله تعالى لا نقص فيها؛ ولذلك لم يجز فيها التفاضل وقد قال إسحاق بن منصور‏:‏ سألت إسحاق بن راهويه عن هذا الحديث فقال لى‏:‏ معناه‏:‏ أن الله جعل لكلامه فضلاً على سائر الكلام، ثم فضل بعض كلامه على بعض بأن جعل لبعضه ثوابًا أضعاف ما جعل لبعض تحريضًا منه صلى الله عليه وسلم على تعليمه وكثرة قراءته، وليس معناه‏:‏ أنه لو قرأ‏:‏ ‏(‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏(‏ثلاث مرات، كان كأنه قرأ القرآن كله، ولو قرأها أكثر من مائتى مرة‏.‏

باب الْمُعَوِّذَاتِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا‏.‏

- وَقَالَتْ أَيْضًا‏:‏ كَانَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا‏:‏ ‏(‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏(‏وَالمعوذات، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثَ‏.‏

وقد تقدم حديث عائشة فى كتاب الطب فى باب الرقى بالمعوذات‏.‏

ودل فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى رقية نفسه عند شكواه وعند نومه متعوذًا بهما على عظيم البركة فى الرقى بهما، والتعوذ بالله من كل ما يخشى فى النوم، وقد روى عبد الرزاق، عن الثورى، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن عقبة بن عامر قال‏:‏ قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنزل علىّ آيات لم أسمع بمثلهن‏:‏ المعوذتين‏.‏

وقال عقبة فى حديثه مرة أخرى‏:‏ قال لى النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ و‏)‏ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 1‏]‏، و‏)‏ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 1‏]‏ تعوذ بهن، فإنه لم يتعوذ بمثلهن قط‏.‏

وقد تقدم فى كتاب المرضى فى باب النفث فى الرقية من كره النفث من العلماء فى الرقية ومن أجازه‏.‏

باب نُزُولِ السَّكِينَةِ وَالْمَلائِكَةِ عِنْدَ القِرَاءَةِ

- وفيه‏:‏ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أن أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، بَيْنَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ؛ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، ثُمَّ قَرَأَ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ‏)‏، قَالَ‏:‏ فَأَشْفَقْتُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِى، فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لا أَرَاهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَتَدْرِى مَا ذَاكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏تِلْكَ الْمَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لا تَتَوَارَى مِنْهُمْ‏)‏‏.‏

في هذا الحديث أن أسيد بن حضير رأى مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تلك الملائكة تنزلت للقرآن‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم فى حديث البراء فى سورة الكهف‏:‏ ‏(‏تلك السكينة نزلت للقرآن‏)‏‏.‏

فمرة أخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة، ومرة أخرى عن نزول الملائكة، فدل على أن السكينة كانت فى تلك الظلة وأنها تنزل أبدًا مع الملائكة، والله أعلم، ولذلك ترجم البخارى باب نزول السكينة والملائكة عند القراءة‏.‏

وفى هذا الحديث أن الملائكة تحب أن تسمع القرآن من بنى آدم لا سيما قراءة المحسنين منهم، وكان أسيد بن حضير حسن الصوت بالقرآن ودل قوله صلى الله عليه وسلم لأسيد‏:‏ لو قرأت لأصبحت تنظر الناس إليها لا تتوارى منهم على حرص الملائكة على سماع كتاب الله من بنى آدم‏.‏

وقد جاء فى الحديث أن البيت الذى يقرأ فيه القرآن يضئ لأهل السماء كما يضئ النجم لأهل الأرض وتحضره الملائكة، وهذا كله ترغيب فى حفظ القرآن، وقيام الليل به، وتحسين قراءته‏.‏

وفيه جواز رؤية بنى آدم للملائكة إذا تصورت فى صورة يمكن للآدميين رؤيتها، كما كان جبريل صلى الله عليه وسلم يظهر للنبى صلى الله عليه وسلم فى صورة رجل فيكلمه، وكثيرًا ما كان يأتيه فى صورة دحية الكلبى وقد تقدم فى باب الكهف تفسير السكينة بما أغنى عن إعادته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم‏)‏ حجة لمن قال‏:‏ إن السكينة روح أو شىء فيه روح؛ لأنه لا يصح حب استماع القرآن إلا لمن يعقل‏.‏

باب مَنْ قَالَ‏:‏ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّهُ سُئل‏:‏ هل تَرَكَ النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ شَىْءٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا تَرَكَ إِلا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ‏.‏

ومُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مثله‏.‏

باب الْوَصاةِ بِكِتَابِ اللَّهِ

- فيه‏:‏ طَلْحَةُ، أَنَّهُ سَأَل عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى‏:‏ آوْصَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لا، قُلْتُ‏:‏ كَيْفَ كُتِبَ عَلَى النَّاسِ الْوَصِيَّةُ‏؟‏ أُمِرُوا بِهَا وَلَمْ يُوصِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

هذان البابان يردان قول من زعم أن النبى صلى الله عليه وسلم أوصى إلى أحد، وأن على بن أبى طالب الوصى، وكذلك قال على بن أبى طالب حين سئل عن ذلك فقال‏:‏ ما عندنا إلا كتاب الله وما فى هذه الصحيفة، الصحيفة مقرونة بسيفه، فيها العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مؤمن بكافر، وقد تقدم ذلك فى غير موضع‏.‏

باب فَضْلِ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلُ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذِى لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ وَلا رِيحَ لَهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِيما خَلا مِنَ الأمَمِ كمثل مَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ وَمَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالا، فَقَالَ‏:‏ مَنْ يَعْمَلُ لِى إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ‏؟‏ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ يَعْمَلُ لِى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، عَلَى قِيرَاطٍ‏؟‏ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالُوا‏:‏ نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلا، وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ‏:‏ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ فَذَاكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وجه ذكر البخارى لهذين الحديثين فى هذا الباب هو أنه لما كان ما جمع طيب الريح وطيب المطعم أفضل المأكولات، وشبه النبى المؤمن الذى يقرأ القرآن بالأترجة التى جمعت طيب الريح وطيب المطعم؛ دل ذلك أن القرآن أفضل الكلام، ودل هذا الحديث على مثل القرآن وحامله والعامل به والتارك له، وكذلك حديث ابن عمر، لما كان المسلمون أكثر أجرًا من أهل التوراة وأهل الإنجيل دل ذلك على فضل القرآن على التوراة والإنجيل؛ لأن المسلمين إنما استحقوا هذه الفضيلة بالقرآن الذى فضلهم الله به، وجعل فيه للحسنة عشر أمثالها وللسيئة واحدة، وتفضل عليهم بأن أعطاهم على تلاوته لكل حرف عشر حسنات كما قال ابن مسعود، وقد أسنده عن النبى أيضًا، وقد وردت آثار كثيرة فى فضائل القرآن والترغيب فى قراءته‏.‏

روى سفيان عن عاصم، عن زر عن عبد الله بن عمرو، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقال لصاحب القرآن‏:‏ اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها‏)‏‏.‏

وقالت عائشة‏:‏ جعلت درج الجنة على عدد آى القرآن، فمن قرأ ثلث القرآن كان على الثلث من درج الجنة، ومن قرأ نصفه كان على النصف من درج الجنة، ومن قرأ القرآن كله كان فى عاليه لم يكن فوقه أحد إلا نبى أو صديق أو شهيد‏.‏

وروى أبو قبيل‏:‏ عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن القرآن والصيام يشفعان يوم القيامة لصاحبهما، فيقول الصيام‏:‏ يا رب، إنى منعته الطعام والشراب فشفعنى فيه، ويقول القرآن‏:‏ يا رب، إنى منعته النوم بالليل فشفعنى فيه فيشفعان فيه‏)‏‏.‏

وروى أبو نعيم، عن بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ كنت جالسًا عند النبى صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول‏:‏ إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاب فيقول‏:‏ هل تعرفنى‏؟‏ فيقول‏:‏ ما أعرفك‏.‏

فيقول‏:‏ أنا صاحبك القرآن الذى أظمأتك فى الهواجر وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان‏:‏ بما كسينا هذا‏؟‏ فيقال لهما‏:‏ بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال‏:‏ اقرأ واصعد فى درج الجنة وغرفها، فهو فى صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلاً‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر‏.‏